التعاون والتّكافل بين الكائنات الحيّة
في الأمثلة السابقة تناولنا موضوع اهتمام ورعاية الكائنات الحية لصغارها والرأفة والرحمة التي يتسم بها سلوكها إضافة إلى التضحية والتفاني التي يبديها تجاه صغارها ، ولكن هناك أمثلة في الطبيعة على التعاون والتكافل بين الأنواع المختلفة للأحياء والتي يمكن رصدها كثيرا، ومن المعروف أن الكائنات الحية التي تعيش على شكل مجامع أو مستعمرات تملك مقومات البقاء والديمومة أكثر من التي تعيش على شكل أفراد ، إن العيش ضمن مجامع أو عوائل يفند مزاعم دعاة التطور التي تنص على كون الطبيعة ميدانا للحرب من أجل البقاء ، وغالبا ما تكون الأحياء في تعاون مثمر فيما بينها بدلا من التنافس حيث تستفيد من ذلك في تحقيق تبادل منفعة أو الاستناد على مبدأ نكران الذات .
ودعاة "التطور" يرون بأعينهم هذه الحقائق ولكنهم دوما يحولون تفسيرها ضمن مفاهيمهم التي يدعون إليها ، وعلى سبيل المثال أجرى أحدهم أبحاثا في هذا المجال ويدعى " بيتر كرويوتكين " في المناطق الشرقية من سيبيريا وفي منثوريا وسجل مشاداته عن التعاون بين الكائنات الحية وألّف كتابا عن هذا الموضوع ، ويقول هذا الباحث في كتابه عن التعاون بين الأحياء ما يلي :
عندما بدأنا نجري بحثا عن الموضوع " البقاء من أجل الحياة " فوجئنا بوجود أمثلة عديدة عن التعاون والتكافل بين الكائنات الحية ، و ظهرت أمامنا حقيقة واضحة وهي أن التعاون ليس فقط من أجل إدامة النسل بل من أجل سلامة الأفراد وتوفير الغذاء لهم وهذه الحقيقة يقبلها المؤمنون بنظرية "التطور" وإن هذا التعاون وتبادل المنفعة يعتبران كقاعدة عامة في عالم الإحياء ، وإن هذا التعاون المتبادل يمكن رؤيته في أدنى حلقة من سلسلة الأحياء .(108).
أمام هذه الأمثلة الحية ما كان من مؤمن بنظرية التطور كـ"كروبوتكين" إلا أن يبدي مثل التعليق الذي ينافي فرضيات هذه النظرية ، وكما سيتبين لنا من الأمثلة التي سنذكرها في الصفحات المقبلة أن التعاون المتبادل بين الأحياء بأنواعها المختلفة مهم جدا في توفير الغذاء والأمن لها ، وإن هذا التوازن والنظام في الطبيعة دليل واضح على قدرة الله الخلاق العليم ، وكل من شاهد هذه الأمثلة الحية في الطبيعة يقف حائرا ومندهشا من هذا السلوك العاقل المستند على مشاعر حساسة الذي يسلكه حيوان غير عاقل وعديم المشاعر أيضا ، ومن الذين شاهدوا وبحثوا هذه الأمثلة الحية عالم باحث في الطب والفيزيولوجي يدعى " كينيث ووكر " حيث سجل مشاهداته في رحلة صيد في شرق إفريقيا كما يلي :
هناك أمثلة عديدة للتعاون المتبادل بين الحيوانات مازالت حية في ذاكري عندما رأيتها في رحلة صيد قمت بها في شرق إفريقيا قبل سنوات ، وشاهدت بأم عيني كيف أن قطعان من الغزلان والحمير الوحشية تتعاون فيما بينها في سهول "آهتي" حيث يضعون من يترصد العدو القادم لينبه القطيع حين قدومه ، ولم أكن خارجا لصيد الحمار الوحشي ولكني فشلت في اصطياد غزال واحد، لأنني كلما اقتربت من غزال لاصطياده ينبه الحمار الوحشي القطيع بقدومي وبذلك يفلت مني ، ووجدت هناك تعاونا بين الزرافة والفيل فالفيل لديه حاسة سمع قوية وآذانه الواسعة تعتبر رادارا لاقطا لأي صوت مقابل حاسة بصر ضعيفة ، أما الزرافة فلها حاسة بصر قوية وتعتبر كمراصد مرتفعة للمراقبة ، وعندما تتحد جهود الفريقين لا يغلبان لا من نظر ولا من سمع و لا يمكن الاقتراب من قطعانهما والمثال الأغرب هو التعاون بين وحيد القرن ( الخرطيط) والطير الذي يحط على ظهره لالتقاط الطفيليات الموجودة على جلده ، فكلما تحس الطيور باقترابي تبدأ بإخراج صوتا معين تنبه به وحيد القرن باقترابي وعندما يبدأ الحيوان بالهرب تبقى الطيور على ظهره كأنها راكبة عربة قطار تهتز باهتزازه (109).
ومشاهدات "كينيث ووكر" ما هي إلا جزء يسير من أمثلة عديدة يمكن لنا أن نشاهدها على التعاون المتبادل بين الأحياء ، ويمكن للإنسان أن يجد أمثلة لهذا التعاون بين الحيوانات التي تعيش بالقرب منه ، والمهم أن يتفكر الإنسان في ماهية هذه الأمثلة .
هل هناك معنى لسلوك كائن حي بهذا التفاني والإيثار خصوصا أن الكائن الحي يفترض أنه جاء إلى هذه الحياة بالصدفة ؟ وبمعنى آخر هل يمكن لنا أن نتوقع مثل هذا السلوك المنطقي من مثل هذا الكائن الحي ؟ بالطبع لأنه لا يمكن لمخلوق غير عاقل نشأ بالصدفة أن يبد سلوكا عاقلا ، ولا يمكن له أن يفكر بحماية الآخرين ، ولا يمكن تفسير الأنماط السلوكية لهذه الكائنات إلاّ بشيء واحد وهو الإلهام الإلهي. وفي الأمثلة القادمة سيتضح لنا بدليل ساطع أن هذه الكائنات الحية تخضع للإلهام الذي يوجهها.
تنبيه الكائنات الحية بعضها البعض بالخطر القادم
من أهم فوائد العيش ضمن تجمعات هو التنبيه للخطر القادم وتوفير وسائل الدفاع بصورة أكثر فاعلية ، لأن الحيوانات التي تعيش ضمن تجمعات تقوم عند إحساسها بالخطر القادم بتنبيه الباقين بدلا من الهرب والنجاة ، ولكل نوع من أنواع الأحياء طريقته الخاصة بالتنبيه بالخطر، على سبيل المثال الأرانب والأيل يقومان برفع ذيولها بصورة قائمة عند قدوم العدو المفترس كوسيلة لتنبيه باقي أفراد القطيع ، أما الغزلان فتقوم بآداء رقصة على شكل قفزات (110).
أما الطيور الصغيرة فتقوم بإصدار أصواتا خاصة عند قدوم الخطر ، فطيور " "san?sa?ma تقوم بإصدار أصوات ذات ترددات عالية مع فواصل متقطعة ، وأذن الإنسان تتحسس هذا النوع من الصوت على شكل صفير وأهم ميزة لهذا الصوت هي عدم معرفة مصدره (111). وهذا لصالح الطير المنبه بالطبع ، لأن الخطورة تكمن في معرفة مكان الطير الذي يقوم بوظيفة التنبيه بالخطر وتقل نسبة الخطورة لعد معرفة هذا الصوت .
أما الحشرات التي تعيش ضمن مستعمرات فوظيفة التنبيه والإنذار تقع على عاتق أول فرد يرى ويحس بالخطر ، إلا من المحتمل أن تكون رائحة المادة التي يفرزها هذا الفرد كوسيلة إنذار قد يحس بها العدو القادم لذا فإنه يضحي بحياته من أجل سلامة المستعمرة (112).
أما الكلاب البرية فتعيش ضمن مجامع يربو عددها على 30 فردا وعلى شكل مساكن شبيه بمدينة صغيرة ، والأفراد يعرفون بعضهم بعضا في هذه المستعمرة ، وهناك دائما حراس مناوبون في مداخل هذه المدينة الصغيرة ويقفون على أطرافهم الخلفية مراقبين البيئة من جميع الجهات وإذا حدث أن أحد المراقبين رأى عددا يقترب فيبدأ من فوره بنباح متصل شبيه بصوت الصفير، ويقوم باقي الحراس بتأكيد هذا الخبر بواسطة النباح أيضا وعندئذ تكون قد علمت بقدوم الخطر ودخلت مرحلة الاستعداد للمجابهة (113).
وهنا نقطة مهمة ينبغي التأكيد عليها ، فتنبيه الكائنات الحية عند قدوم الخطر مسألة تثير الاهتمام والفضول ، والأهم من ذلك أن هذه الكائنات تفهم بعضها البعض ، والأمثلة التي أوردناها أعلاه مثلا الأرنب الذي يرفع ذيله عند إحساسه بالخطر فهذه العلامة يفهمها باقي الحيوانات ويدخلون مرحلة التيقظ على هذا الأساس ، حيث يبتعدون أن وجب الأمر الابتعاد أو يختفون إن كان هناك مجال للاختفاء ، والأمر المثير للاهتمام هو :أن هذه الحيوانات متفقة فيما بينها مسبقا على هذه الإشارات بحيث تكون بإشارة واحدة متنبهة بقدوم الخطر ، إلاّ أن هذا الافتراض لايمكن أن يكون مقبولا من أي إنسان ذو تفكير ومنطق ، إذن فالأمر المحتم قبوله هو أن هذه الكائنات الحية مخلوقة من قبل خالق واحد وتتحرك وفق إلهامه وتوجيهه .
أما المثال المتعلق بالصغير الذي يطلقه الطير عند إحساسه بالخطر وفهمه من قبل وحيد القرن ، وهنا يظهر أمامنا سلوك عاقل ومنطقي يثير الحيرة فينا ، فمن غير الممكن أن تفكر حيوانات غير عاقلة بتنبيه باقي الحيوانات بقدوم الخطر وتكون تلك الحيوانات قد فهمت الإشارة واستوعبتها، وهنا يبرز أمامنا تفسير واحد لسلوك حيوان غير عاقل بهذه الصورة المنطقية وهو : كون هذه الحيوانات قد اكتسبت هذه القابليات والأنماط السلوكية ، وإن الذي خلقها وسواها وهو الله الخلاق العلم الذي يتغمدها برحمته الواسعة .
مجابهة الأحياء للخطر جماعيّا.
لا تكتفي الحيوانات التي تعيش على شكل مجامع بإنذار بعضها البعض بقدوم الخطر بل تشارك أيضا بمجابهته ، مثلا الطيور الصغيرة ، تقوم بمحاصرة الصقر أو البوم الذي يتجرأ أو يتجرأ ويدخل مساكنها ، وفي تلك الأثناء تقوم بطلب المساعدة من الطيور الموجودة في تلك المنطقة ، وهذا الهجوم الجماعي الذي تقوم به هذه الطيور الصغيرة يكفي لإضافة وطرد الطيور المفترسة (114).
ويشكل السرب الذي تطير ضمنه الطيور خير وسيلة للدفاع ، فالسرب الذي يطير ضمنه الزرزور يتركون بينهم مسافات طويلة أثناء الطيران وإذا رأوا طائرا مفترسا يقترب كالصقر فسرعان ما يقللون ما بينهم من مسافات مقتربين من بعضهم البعض بتلك يقللون من إمكانية اقتحام الصقر للسرب وإذا أمكن له ذلك فسيجد مقاومة شديدة وربما يصاب بجروح بجناحيه ويعجز عن الصيد (115).
واللبائن تتصرف على هذه الشاكلة أيضا خصوصا إذا كانت تعيش ضمن قطعان ، ومثال على ذلك الحمار الوحشي حيث يدفع بصغاره نحو أواسط القطيع أثناء هربه من العدو المفترس ، وهذه الحالة درسها جيدا العالم البريطاني "جون كودول" في شرق إفريقيا حيث سجل في مشاهداته كيف أن ثلاثة من الحمير الوحشية تخلفت عن القطيع وحوصرت من قبل الحيوانات المفترسة وعندما أحس القطيع بذلك سرعان ما قفل راجعا مهاجما الحيوانات المفترسة بحوافرها وأسنانها ونجح القطيع مجتمعا في إخافة هؤلاء الأعداء وطردها من المكان (116).
و عموما فإن قطيع الحمير الوحشية عندما يتعرض للخطر يظل زعيم القطيع متخلفا عن باقي الإناث والصغار الهاربين ، ويبدأ الذكر يجري بصورة ملتوية موجها ركلات قوية إلى عدوه وحتى أنه يرجع ليقاتل عدوه (117).
ويعيش "الدولفين"ضمن جماعات تسبح سويا وتقوم بمهاجمة عدوها اللدود { الكواسج } بصورة جماعية أيضا ، وعندما يقترب الكوسج من هذه الجماعة يشكل خطرا جسيما على صغار الدولفين حيث يبتعد اثنين من الدولفين عن الجماعة ليلفتا انتباه الكوسج إليهما ويبعدانه عن الجماعة ، وعندئذ تنتهز الجماعة تلك الفرصة في الهجوم فجأة وتوجيه الضربات تلو الضربات على هذا العدو المفترس (118).
وتسلك سلوكا غريبا آخر حيث أنها تسبح بموازاة جماعات سمك " التونة " التي تشكل مصدرا غذائيا مهما لها ، لهذا السبب فإن صيادي سمك " التونة " يتخذون الدولفين دليلا لهم في اصطياد هذا النوع من السمك ولسوء الحظ هناك حالات كثيرة يتم فيها وقوع الدولفين في شباك الصيادين ولكون هذا الحيوان لينا غير قادر على السفر تحت الماء فسرعان ما يصاب بالهلع ويبدأ بالوقوع نحو قاع الماء ، وفي تلك الأثناء يبدأ باقي الدلافين بنجدة زميلهم وهذا دليل على الترابط العائلي الموجود في الجماعة ، ويبدأ كافة أفراد الجماعة بالنزول إلى الأسفل ومحاولة دفع الشباك إلى الأعلى لإنقاذ حياة زميلهم ، ولكن هذه المحاولات كثيرا ما تبوء بالفشل والموت للكثير منهم لعدم قدرتهم على التنفس تحت الماء ، وهذه السلوك عام لكافة أنواع الدولفين (119).
أما الحيتان الرمادية فيتسابق ذكرا أو اثنين منها لنجدة أنثى مصابة بجروح عن طريق دفعها نحو سطح الماء لتسهيل تنفسها وكذلك حمايتها من هجمات الحوت القاتل (120).
ويقوم ثيران المسك بتشكيل دائرة فيما بينها تجاه العدو المفترس ، حيث تخطوا خطوات للوراء دون أن تجعل ظهرها نحو العدو ، والهدف هو حماية الصغار الذين يبقون داخل هذه الدائرة متمسكين بشعر أمهاتهم المتدلي الطويل ، وبهذا الشكل الدائري تنجح الثيران البالغة في المحافظة على حياة الثيران الصغيرة ، وعندما يهجم أحد أفراد هذه الدائرة على هذا العدو سرعان ما يرجع إلى نفس موقعه في الدائرة كي لا يتخلل النظام الأمني (121).
وهناك أمثلة أخرى تتبعها الحيوانات أثناء الصيد شبيهة بسلوكها أثناء الحماية والدفاع عن النفس فالبجع يقوم بصيد السمك بصورة جماعية ، حيث تشكل نصف دائرة قريبة من الضفة وتضيق من هذه الدائرة شيئا فشيئا ومن ثم تبدأ بصيد الأسماك المحاصرة في هذه المياه الضحلة ، وينقسم البجع في الأنهار الضيقة والقنوات إلى مجموعتين ، وعندما يحل المساء تنسحب هذه الطيور إلى مكان تستريح فيه ولا يمكن أن ترى متشاحنة أو متعاركة فيما بينها سواء في الخلجان أو في أماكن استراحتها (122).
هذه الأنماط السلوكية التي تبديها الحيوانات من تعاون وتكاتف وتكافل وتضحية تثير أسئلة عديدة في مخيلة الإنسان ، لأن الحديث يدور عن مخلوقات غير عاقلة ليس عن أناس ذوي عقل ودراية أي أن الحديث يدور عن حمير وحشية أو طيور أو حشرات أو الدلافين وغيرها. ولا يمكن للإنسان العاقل أن يفترض أرضية منطقية وعاقلة كتفسير لسلوك هذه الحيوانات ، والتفسير الوحيد الذي يمكن للإنسان العاقل أن يتوصل إليه أمام هذه الأمثلة هو : أن الطبيعة ومحتوياتها ما هي إلا مخلوقات خلقها خالق واحد قدير لا حد لقدرته ، وهذا الخالق هو الذي خلق كافة الأحياء من إنسان أو حيوان أو حشرة أو نبات وخلق كل شيء حي أو غير حي وهو الله البارئ المصور ذو القدرة والرحمة والرأفة والحكمة ، وكما ورد في القرآن الكريم :
"سورة الجاثية الآية 36-37" قوله تعالى : {فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين (36) وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم (37) } صدق الله العظيم
سورة ص الآية 66 يقول تعالى : { رب السماوات والأرض و ما بينهما العزيز الغفار} صدق الله العظيم .
التكاتف والتعاون بين طيور إفريقيا
تعيش طيور إفريقيا على شكل جماعات متعاونة ومتناسقة في أروع صورة ممكنة ، ومصدرها الغذائي يتشكل من الفواكه التي تحملها أغصان الأشجار التي تعيش عليها ، وللوهلة الأولى تبدو لنا عملية التغذي على الفواكه التي توجد في قمة الأغصان غاية في الصعوبة ، لسببين أولهما عدم إمكان الوصول للفاكهة الموجودة في قمة الأغصان وأطرافها من قبل الطيور البعيدة عنها وثانيهما شحة المكان الذي يمكن للطير أن يحط عليه فوق الشجرة فالمتوقع لهذا الطير أن يعاني من الجوع حتما ، ولكن الحقيقة والواقع عكس ذلك تماما .
تتحرك هذه الطيور الإفريقية نحو أغصان الأشجار وكأنها متفقة فيما بينها مسبقا على أن تكون حركتها بالتناوب حيث تتراص بينها على غصن الشجرة ، ويبدأ الطير الأقرب إلى الفاكهة يتناولها ويأخذ حصته منها ومن ثم يناولها إلى الذي بجانبه وهكذا تتجول الفاكهة من فم إلى آخر حتى أبعد طير على غصن الشجرة وبذلك تتشارك الطيور في التغذية ، ويثار هنا تساؤلا مفاده كيف أمكن لهذه الحيوانات غير العاقلة أن تتصرف وفق هذه التضحية والتعاون فيما بينها وكيف لا يفكر الطير الأقرب إلى الفاكهة بالاستحواذ عليها دونا على الباقين ، ومن أين أتى هذا النظام والانتظام في التغذية بين هذه الطيور في تطبيق لا نظير له في الإحياء ، علما أن لا أحد من هذه الطيور يسلك سلوكا من شأنه أن يخلخل النظام على غصن الشجرة مع هذا لا يشبع العدد المتوقف على غصن الشجرة في المرة الواحدة لعدم كفاية الفاكهة الملتقطة والموجودة على غصن تلك الشجرة ، لذلك تقوم هذه الطيور في الوقوف على غصن آخر مليء بالفاكهة ولكن هذه المرة يكون الطير الأكثر جوعا والأبعد عن الفاكهة في المرة الماضية الأقرب إلى الفاكهة وتبدأ دورة التغذية من جديد وفق نظام يتم بالعدالة والدقة (123).
الحيوانات المتعاونة عند الولادة
تكون الحيوانات وخصوصا اللبائن أكثر تعرضا للخطر أثناء الولادة ، لأن الأم ووليدها يكونان لقمة سائغة للحيوانات المفترسة ، ولكن الملاحظ أن هذه الحيوانات تكون بحماية أحد أفراد القطيع عندما تضع وليدها ، على سبيل المثال تختار أنثى الانتيلوب مكانا أمينا بين الأعشاب الطويلة لتضع وليدها ولا تكون وحدها أثناء الولادة حيث تكون بجانبها أنثى أخرى من نفس القطيع كي تساعدها حين الحاجة .
وهناك مثال آخر للتعاون بين الحيوانات أثناء الولادة وهو " الدولفين" فالوليد الصغير عندما عندما يخرج توا من رحم أمه عليه أن يخرج لسطح الماء للتنفس ، لذلك تدفعه أمه بأنفها إلى أعلى كي يستطيع التنفس ، وتكون الأم ثقيلة الحركة قبل الولادة ، ويقترب منها أنثيين من نفس الجماعة لمساعدتها لحظة الولادة ، وتكون هذه المساعدان تسبحان إلى جانبي الأم لحظة الولادة لمنع أي ضرر يلحق بها في تلك اللحظة الحرجة ، خصوصا أن الأم تكون ثقيلة الحركة ومعرضة للخطر أكثر وقت مضى .
ويكون الوليد الجديد لصيقا بأمه طيلة الأسبوعين الأولين ، ويبدأ السباحة شيئا فشيئا بعد ولادته بفترة قصيرة وتدريجيا يبدأ بالاستقلال عن أمه ، وتكون الأم في هذه الحالة ضعيفة بعض الشيء ولا تستطيع أن تتأقلم مع حركات الولي الجيد لذا فتتدخل أنثى أخرى لحماية الصغير وتوفير العون الكامل للأم حتى تلتقط أنفاسها (124).
وعلى نفس الأسلوب تلد الفيلة أولادها ، حيث تكون أنثى دوما لمساعدة الأم أثناء الولادة ، حيث تختفي الأم ووصيفتها داخل الأعشاب الطويلة بكل مهارة حتى تنتهي عملية الولادة وتستمران في رعاية الفيل الجديد طيلة حياتهما ، وتتميز الفيل الأم بحساسية مفرطة خصوصا عندما تكون بجانب وليدها (125).
وهناك أسئلة عديدة تطرح نفسها في هذا المجال مثلا كيف تتفاهم الفيلة أو غيرها من الحيوانات مع بعضها أو الأنثى التي تصبح مساعدة كيف تفهم أو تشعر باقتراب موعد الولادة لقريبتها ؟
وهذه الحيوانات لا تمتلك عقلا مفكرا أو إرادة فاعلة لتحديد هذه الأمور الحياتية ، إضافة إلى أن هذه الفيلة السالفة الذكر تسلك نفس السلوك في أية بقعة أخرى في العالم ، ونفس الشيء يقال للدولفين أو غيره من الحيوانات ، وهذا دليل على كونها مخلوقة من قبل خالق واحد يتغمدها برحمته وعلمه الواسعين أينما كانوا .
الحيوانات الحاضنة لصغار غيرها من الحيوانات
تمتاز اللبائن بأنها تنشأ علاقات قرابة وطيدة فيما بينها ، على سبيل المثال الذئاب تعيش ضمن عائلة واحدة تتألف من ذكر وأنثى وصغيرهما وربما واحد أو اثنين من ولادات سابقة ، وكل الحيوانات البالغة تقوم بمهمة حماية الصغار ، وأحيانا تبقى إحدى الإناث في الوكر لتقويم بمهمة الحاضن لأحد الصغار طول الليل بينما تقوم الأم بالخروج إلى الصيد مع باقي أفراد الجماعة .
تعيش كلاب الصيد الإفريقية ضمن جماعات تتألف الواحدة منها من عشرة أفراد ، وتبدأ توزيع الواجبات بين الذكور و الإناث والتي تتلخص بحماية الصغار وتغذيتهم ، وتتسابق فيما بينها على رعاية الصغار ، وعند اصطيادها لفريسة تقوم بتشكيل حلقة حولها لحمايتها من هجوم الضباع ولإفساح المجال للصغار بالتغذي عليها (126).
ويعيش " البابون " أيضا ضمن جماعة يقوم زعيمها برعاية المرضى والجرحى من أفرادها ، حتى أن البالغين قد يتبنون " بابون " صغير في حالة فقدانه لأبويه ، حيث يأذنون له بالسير معهم نهارا والمبيت عندهم ليلا ، وقد تغير الجماعة مكانها عندئذ تقوم الأم بالمسك من يد صغيرها ليمشي الهويدا في حالة كونه صغيرا جدا لا تستطيع أن تضبط توازنه أثناء حملها له ، والصغير قد يتعب أثناء سيره ويتسلق ظهر أمه غالبا ، وهذا يؤدي إلى تقهقرهم عن الجماعة ، ولو فطن زعيم الجماعة لهذا الأمر يقفل راجعا إلى حيث تقف الأم ويبدأ بمرافقتهم أثناء المسير (127).
أما أبناء آوى فتعيش مع أمهاتها حتى بعد انقطاعها عن الرضاعة وتصبح يافعة تساعد أمها عند ولادتها لرضيع جديد ، حيث تجلب الغذاء للصغار أو تذهب بهم إلى مكان بعيد لحين ابتعاد الخطر الداهم (128).
وليس أبناء آوى وحدهم الذين يهتمون برعاية أشقائهم بل تقوم بنفس المهمة طيور مثل دجاج الماء و السنونو حيث تقوم صغارها في الأعشاش القديمة بمعاونة أشقائهم في الأعشاش الحديثة .
والتعاون في عالم الطيور يتخذ شكلا آخر لأنه يكون بين أزواج الطيور مثل طير النحل حيث يتعاون الزوجان في تنشئة أطفالهما وهذا التعاون من الممكن مشاهدته لدى الطيور بكثرة (129).
وهذه الرعاية التي تبديها الحيوانات تجاه صغار لا تعود إليهم تعتبر من الأدلة القوية لنسف مزاعم دعاة " التطور " ، وكما أسلفنا القول فإن المؤمنين بنظرية "التطور" يفسرون سلوك الحيوانات المتسم بالتضحية على كونها ليست تضحية بل أنانية لأنها تهدف إلى الحفاظ على الجينات الوراثية ونقلها إلى أجيال لاحقة فقط .
ولكن اتضح من الأمثلة السالفة أن هذه الحيوانات لا تبد اهتمام ورعاية لأبناءها من حملة جيناتها فقط وإنما تجاه حيوانات لا تحمل أية جينات منها أصلا بمنتهى الرأفة والرحمة والشفقة ، أي أن هذه الفرضية فرضية "الجين الأناني" التي ساقها المؤمنون بنظرية " التطور" قد أفلست تماما وثبت عدم صحتها بالمرة. ومن المستحيل ان يفكر حيوان غير عاقل بنقل جيناتها إلى جيل لاحق. ولو قبلنا أن تكون هذه الحيوانات مبرمجة على عملية نقل الجينات فيجب علينا أن نقبل وجود مبرمج لهذا البرنامج. وكلّ حيوان نصادفه في الطبيعة وندرس طبائعه وخصائصه يقودنا الى الى خالق واحد لهذا الوجود .وهذا الخالق بلا شك هو الله الرحمن الرّحيم
في الأمثلة السابقة تناولنا موضوع اهتمام ورعاية الكائنات الحية لصغارها والرأفة والرحمة التي يتسم بها سلوكها إضافة إلى التضحية والتفاني التي يبديها تجاه صغارها ، ولكن هناك أمثلة في الطبيعة على التعاون والتكافل بين الأنواع المختلفة للأحياء والتي يمكن رصدها كثيرا، ومن المعروف أن الكائنات الحية التي تعيش على شكل مجامع أو مستعمرات تملك مقومات البقاء والديمومة أكثر من التي تعيش على شكل أفراد ، إن العيش ضمن مجامع أو عوائل يفند مزاعم دعاة التطور التي تنص على كون الطبيعة ميدانا للحرب من أجل البقاء ، وغالبا ما تكون الأحياء في تعاون مثمر فيما بينها بدلا من التنافس حيث تستفيد من ذلك في تحقيق تبادل منفعة أو الاستناد على مبدأ نكران الذات .
ودعاة "التطور" يرون بأعينهم هذه الحقائق ولكنهم دوما يحولون تفسيرها ضمن مفاهيمهم التي يدعون إليها ، وعلى سبيل المثال أجرى أحدهم أبحاثا في هذا المجال ويدعى " بيتر كرويوتكين " في المناطق الشرقية من سيبيريا وفي منثوريا وسجل مشاداته عن التعاون بين الكائنات الحية وألّف كتابا عن هذا الموضوع ، ويقول هذا الباحث في كتابه عن التعاون بين الأحياء ما يلي :
عندما بدأنا نجري بحثا عن الموضوع " البقاء من أجل الحياة " فوجئنا بوجود أمثلة عديدة عن التعاون والتكافل بين الكائنات الحية ، و ظهرت أمامنا حقيقة واضحة وهي أن التعاون ليس فقط من أجل إدامة النسل بل من أجل سلامة الأفراد وتوفير الغذاء لهم وهذه الحقيقة يقبلها المؤمنون بنظرية "التطور" وإن هذا التعاون وتبادل المنفعة يعتبران كقاعدة عامة في عالم الإحياء ، وإن هذا التعاون المتبادل يمكن رؤيته في أدنى حلقة من سلسلة الأحياء .(108).
أمام هذه الأمثلة الحية ما كان من مؤمن بنظرية التطور كـ"كروبوتكين" إلا أن يبدي مثل التعليق الذي ينافي فرضيات هذه النظرية ، وكما سيتبين لنا من الأمثلة التي سنذكرها في الصفحات المقبلة أن التعاون المتبادل بين الأحياء بأنواعها المختلفة مهم جدا في توفير الغذاء والأمن لها ، وإن هذا التوازن والنظام في الطبيعة دليل واضح على قدرة الله الخلاق العليم ، وكل من شاهد هذه الأمثلة الحية في الطبيعة يقف حائرا ومندهشا من هذا السلوك العاقل المستند على مشاعر حساسة الذي يسلكه حيوان غير عاقل وعديم المشاعر أيضا ، ومن الذين شاهدوا وبحثوا هذه الأمثلة الحية عالم باحث في الطب والفيزيولوجي يدعى " كينيث ووكر " حيث سجل مشاهداته في رحلة صيد في شرق إفريقيا كما يلي :
هناك أمثلة عديدة للتعاون المتبادل بين الحيوانات مازالت حية في ذاكري عندما رأيتها في رحلة صيد قمت بها في شرق إفريقيا قبل سنوات ، وشاهدت بأم عيني كيف أن قطعان من الغزلان والحمير الوحشية تتعاون فيما بينها في سهول "آهتي" حيث يضعون من يترصد العدو القادم لينبه القطيع حين قدومه ، ولم أكن خارجا لصيد الحمار الوحشي ولكني فشلت في اصطياد غزال واحد، لأنني كلما اقتربت من غزال لاصطياده ينبه الحمار الوحشي القطيع بقدومي وبذلك يفلت مني ، ووجدت هناك تعاونا بين الزرافة والفيل فالفيل لديه حاسة سمع قوية وآذانه الواسعة تعتبر رادارا لاقطا لأي صوت مقابل حاسة بصر ضعيفة ، أما الزرافة فلها حاسة بصر قوية وتعتبر كمراصد مرتفعة للمراقبة ، وعندما تتحد جهود الفريقين لا يغلبان لا من نظر ولا من سمع و لا يمكن الاقتراب من قطعانهما والمثال الأغرب هو التعاون بين وحيد القرن ( الخرطيط) والطير الذي يحط على ظهره لالتقاط الطفيليات الموجودة على جلده ، فكلما تحس الطيور باقترابي تبدأ بإخراج صوتا معين تنبه به وحيد القرن باقترابي وعندما يبدأ الحيوان بالهرب تبقى الطيور على ظهره كأنها راكبة عربة قطار تهتز باهتزازه (109).
ومشاهدات "كينيث ووكر" ما هي إلا جزء يسير من أمثلة عديدة يمكن لنا أن نشاهدها على التعاون المتبادل بين الأحياء ، ويمكن للإنسان أن يجد أمثلة لهذا التعاون بين الحيوانات التي تعيش بالقرب منه ، والمهم أن يتفكر الإنسان في ماهية هذه الأمثلة .
هل هناك معنى لسلوك كائن حي بهذا التفاني والإيثار خصوصا أن الكائن الحي يفترض أنه جاء إلى هذه الحياة بالصدفة ؟ وبمعنى آخر هل يمكن لنا أن نتوقع مثل هذا السلوك المنطقي من مثل هذا الكائن الحي ؟ بالطبع لأنه لا يمكن لمخلوق غير عاقل نشأ بالصدفة أن يبد سلوكا عاقلا ، ولا يمكن له أن يفكر بحماية الآخرين ، ولا يمكن تفسير الأنماط السلوكية لهذه الكائنات إلاّ بشيء واحد وهو الإلهام الإلهي. وفي الأمثلة القادمة سيتضح لنا بدليل ساطع أن هذه الكائنات الحية تخضع للإلهام الذي يوجهها.
تنبيه الكائنات الحية بعضها البعض بالخطر القادم
من أهم فوائد العيش ضمن تجمعات هو التنبيه للخطر القادم وتوفير وسائل الدفاع بصورة أكثر فاعلية ، لأن الحيوانات التي تعيش ضمن تجمعات تقوم عند إحساسها بالخطر القادم بتنبيه الباقين بدلا من الهرب والنجاة ، ولكل نوع من أنواع الأحياء طريقته الخاصة بالتنبيه بالخطر، على سبيل المثال الأرانب والأيل يقومان برفع ذيولها بصورة قائمة عند قدوم العدو المفترس كوسيلة لتنبيه باقي أفراد القطيع ، أما الغزلان فتقوم بآداء رقصة على شكل قفزات (110).
أما الطيور الصغيرة فتقوم بإصدار أصواتا خاصة عند قدوم الخطر ، فطيور " "san?sa?ma تقوم بإصدار أصوات ذات ترددات عالية مع فواصل متقطعة ، وأذن الإنسان تتحسس هذا النوع من الصوت على شكل صفير وأهم ميزة لهذا الصوت هي عدم معرفة مصدره (111). وهذا لصالح الطير المنبه بالطبع ، لأن الخطورة تكمن في معرفة مكان الطير الذي يقوم بوظيفة التنبيه بالخطر وتقل نسبة الخطورة لعد معرفة هذا الصوت .
أما الحشرات التي تعيش ضمن مستعمرات فوظيفة التنبيه والإنذار تقع على عاتق أول فرد يرى ويحس بالخطر ، إلا من المحتمل أن تكون رائحة المادة التي يفرزها هذا الفرد كوسيلة إنذار قد يحس بها العدو القادم لذا فإنه يضحي بحياته من أجل سلامة المستعمرة (112).
أما الكلاب البرية فتعيش ضمن مجامع يربو عددها على 30 فردا وعلى شكل مساكن شبيه بمدينة صغيرة ، والأفراد يعرفون بعضهم بعضا في هذه المستعمرة ، وهناك دائما حراس مناوبون في مداخل هذه المدينة الصغيرة ويقفون على أطرافهم الخلفية مراقبين البيئة من جميع الجهات وإذا حدث أن أحد المراقبين رأى عددا يقترب فيبدأ من فوره بنباح متصل شبيه بصوت الصفير، ويقوم باقي الحراس بتأكيد هذا الخبر بواسطة النباح أيضا وعندئذ تكون قد علمت بقدوم الخطر ودخلت مرحلة الاستعداد للمجابهة (113).
وهنا نقطة مهمة ينبغي التأكيد عليها ، فتنبيه الكائنات الحية عند قدوم الخطر مسألة تثير الاهتمام والفضول ، والأهم من ذلك أن هذه الكائنات تفهم بعضها البعض ، والأمثلة التي أوردناها أعلاه مثلا الأرنب الذي يرفع ذيله عند إحساسه بالخطر فهذه العلامة يفهمها باقي الحيوانات ويدخلون مرحلة التيقظ على هذا الأساس ، حيث يبتعدون أن وجب الأمر الابتعاد أو يختفون إن كان هناك مجال للاختفاء ، والأمر المثير للاهتمام هو :أن هذه الحيوانات متفقة فيما بينها مسبقا على هذه الإشارات بحيث تكون بإشارة واحدة متنبهة بقدوم الخطر ، إلاّ أن هذا الافتراض لايمكن أن يكون مقبولا من أي إنسان ذو تفكير ومنطق ، إذن فالأمر المحتم قبوله هو أن هذه الكائنات الحية مخلوقة من قبل خالق واحد وتتحرك وفق إلهامه وتوجيهه .
أما المثال المتعلق بالصغير الذي يطلقه الطير عند إحساسه بالخطر وفهمه من قبل وحيد القرن ، وهنا يظهر أمامنا سلوك عاقل ومنطقي يثير الحيرة فينا ، فمن غير الممكن أن تفكر حيوانات غير عاقلة بتنبيه باقي الحيوانات بقدوم الخطر وتكون تلك الحيوانات قد فهمت الإشارة واستوعبتها، وهنا يبرز أمامنا تفسير واحد لسلوك حيوان غير عاقل بهذه الصورة المنطقية وهو : كون هذه الحيوانات قد اكتسبت هذه القابليات والأنماط السلوكية ، وإن الذي خلقها وسواها وهو الله الخلاق العلم الذي يتغمدها برحمته الواسعة .
مجابهة الأحياء للخطر جماعيّا.
لا تكتفي الحيوانات التي تعيش على شكل مجامع بإنذار بعضها البعض بقدوم الخطر بل تشارك أيضا بمجابهته ، مثلا الطيور الصغيرة ، تقوم بمحاصرة الصقر أو البوم الذي يتجرأ أو يتجرأ ويدخل مساكنها ، وفي تلك الأثناء تقوم بطلب المساعدة من الطيور الموجودة في تلك المنطقة ، وهذا الهجوم الجماعي الذي تقوم به هذه الطيور الصغيرة يكفي لإضافة وطرد الطيور المفترسة (114).
ويشكل السرب الذي تطير ضمنه الطيور خير وسيلة للدفاع ، فالسرب الذي يطير ضمنه الزرزور يتركون بينهم مسافات طويلة أثناء الطيران وإذا رأوا طائرا مفترسا يقترب كالصقر فسرعان ما يقللون ما بينهم من مسافات مقتربين من بعضهم البعض بتلك يقللون من إمكانية اقتحام الصقر للسرب وإذا أمكن له ذلك فسيجد مقاومة شديدة وربما يصاب بجروح بجناحيه ويعجز عن الصيد (115).
واللبائن تتصرف على هذه الشاكلة أيضا خصوصا إذا كانت تعيش ضمن قطعان ، ومثال على ذلك الحمار الوحشي حيث يدفع بصغاره نحو أواسط القطيع أثناء هربه من العدو المفترس ، وهذه الحالة درسها جيدا العالم البريطاني "جون كودول" في شرق إفريقيا حيث سجل في مشاهداته كيف أن ثلاثة من الحمير الوحشية تخلفت عن القطيع وحوصرت من قبل الحيوانات المفترسة وعندما أحس القطيع بذلك سرعان ما قفل راجعا مهاجما الحيوانات المفترسة بحوافرها وأسنانها ونجح القطيع مجتمعا في إخافة هؤلاء الأعداء وطردها من المكان (116).
و عموما فإن قطيع الحمير الوحشية عندما يتعرض للخطر يظل زعيم القطيع متخلفا عن باقي الإناث والصغار الهاربين ، ويبدأ الذكر يجري بصورة ملتوية موجها ركلات قوية إلى عدوه وحتى أنه يرجع ليقاتل عدوه (117).
ويعيش "الدولفين"ضمن جماعات تسبح سويا وتقوم بمهاجمة عدوها اللدود { الكواسج } بصورة جماعية أيضا ، وعندما يقترب الكوسج من هذه الجماعة يشكل خطرا جسيما على صغار الدولفين حيث يبتعد اثنين من الدولفين عن الجماعة ليلفتا انتباه الكوسج إليهما ويبعدانه عن الجماعة ، وعندئذ تنتهز الجماعة تلك الفرصة في الهجوم فجأة وتوجيه الضربات تلو الضربات على هذا العدو المفترس (118).
وتسلك سلوكا غريبا آخر حيث أنها تسبح بموازاة جماعات سمك " التونة " التي تشكل مصدرا غذائيا مهما لها ، لهذا السبب فإن صيادي سمك " التونة " يتخذون الدولفين دليلا لهم في اصطياد هذا النوع من السمك ولسوء الحظ هناك حالات كثيرة يتم فيها وقوع الدولفين في شباك الصيادين ولكون هذا الحيوان لينا غير قادر على السفر تحت الماء فسرعان ما يصاب بالهلع ويبدأ بالوقوع نحو قاع الماء ، وفي تلك الأثناء يبدأ باقي الدلافين بنجدة زميلهم وهذا دليل على الترابط العائلي الموجود في الجماعة ، ويبدأ كافة أفراد الجماعة بالنزول إلى الأسفل ومحاولة دفع الشباك إلى الأعلى لإنقاذ حياة زميلهم ، ولكن هذه المحاولات كثيرا ما تبوء بالفشل والموت للكثير منهم لعدم قدرتهم على التنفس تحت الماء ، وهذه السلوك عام لكافة أنواع الدولفين (119).
أما الحيتان الرمادية فيتسابق ذكرا أو اثنين منها لنجدة أنثى مصابة بجروح عن طريق دفعها نحو سطح الماء لتسهيل تنفسها وكذلك حمايتها من هجمات الحوت القاتل (120).
ويقوم ثيران المسك بتشكيل دائرة فيما بينها تجاه العدو المفترس ، حيث تخطوا خطوات للوراء دون أن تجعل ظهرها نحو العدو ، والهدف هو حماية الصغار الذين يبقون داخل هذه الدائرة متمسكين بشعر أمهاتهم المتدلي الطويل ، وبهذا الشكل الدائري تنجح الثيران البالغة في المحافظة على حياة الثيران الصغيرة ، وعندما يهجم أحد أفراد هذه الدائرة على هذا العدو سرعان ما يرجع إلى نفس موقعه في الدائرة كي لا يتخلل النظام الأمني (121).
وهناك أمثلة أخرى تتبعها الحيوانات أثناء الصيد شبيهة بسلوكها أثناء الحماية والدفاع عن النفس فالبجع يقوم بصيد السمك بصورة جماعية ، حيث تشكل نصف دائرة قريبة من الضفة وتضيق من هذه الدائرة شيئا فشيئا ومن ثم تبدأ بصيد الأسماك المحاصرة في هذه المياه الضحلة ، وينقسم البجع في الأنهار الضيقة والقنوات إلى مجموعتين ، وعندما يحل المساء تنسحب هذه الطيور إلى مكان تستريح فيه ولا يمكن أن ترى متشاحنة أو متعاركة فيما بينها سواء في الخلجان أو في أماكن استراحتها (122).
هذه الأنماط السلوكية التي تبديها الحيوانات من تعاون وتكاتف وتكافل وتضحية تثير أسئلة عديدة في مخيلة الإنسان ، لأن الحديث يدور عن مخلوقات غير عاقلة ليس عن أناس ذوي عقل ودراية أي أن الحديث يدور عن حمير وحشية أو طيور أو حشرات أو الدلافين وغيرها. ولا يمكن للإنسان العاقل أن يفترض أرضية منطقية وعاقلة كتفسير لسلوك هذه الحيوانات ، والتفسير الوحيد الذي يمكن للإنسان العاقل أن يتوصل إليه أمام هذه الأمثلة هو : أن الطبيعة ومحتوياتها ما هي إلا مخلوقات خلقها خالق واحد قدير لا حد لقدرته ، وهذا الخالق هو الذي خلق كافة الأحياء من إنسان أو حيوان أو حشرة أو نبات وخلق كل شيء حي أو غير حي وهو الله البارئ المصور ذو القدرة والرحمة والرأفة والحكمة ، وكما ورد في القرآن الكريم :
"سورة الجاثية الآية 36-37" قوله تعالى : {فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين (36) وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم (37) } صدق الله العظيم
سورة ص الآية 66 يقول تعالى : { رب السماوات والأرض و ما بينهما العزيز الغفار} صدق الله العظيم .
التكاتف والتعاون بين طيور إفريقيا
تعيش طيور إفريقيا على شكل جماعات متعاونة ومتناسقة في أروع صورة ممكنة ، ومصدرها الغذائي يتشكل من الفواكه التي تحملها أغصان الأشجار التي تعيش عليها ، وللوهلة الأولى تبدو لنا عملية التغذي على الفواكه التي توجد في قمة الأغصان غاية في الصعوبة ، لسببين أولهما عدم إمكان الوصول للفاكهة الموجودة في قمة الأغصان وأطرافها من قبل الطيور البعيدة عنها وثانيهما شحة المكان الذي يمكن للطير أن يحط عليه فوق الشجرة فالمتوقع لهذا الطير أن يعاني من الجوع حتما ، ولكن الحقيقة والواقع عكس ذلك تماما .
تتحرك هذه الطيور الإفريقية نحو أغصان الأشجار وكأنها متفقة فيما بينها مسبقا على أن تكون حركتها بالتناوب حيث تتراص بينها على غصن الشجرة ، ويبدأ الطير الأقرب إلى الفاكهة يتناولها ويأخذ حصته منها ومن ثم يناولها إلى الذي بجانبه وهكذا تتجول الفاكهة من فم إلى آخر حتى أبعد طير على غصن الشجرة وبذلك تتشارك الطيور في التغذية ، ويثار هنا تساؤلا مفاده كيف أمكن لهذه الحيوانات غير العاقلة أن تتصرف وفق هذه التضحية والتعاون فيما بينها وكيف لا يفكر الطير الأقرب إلى الفاكهة بالاستحواذ عليها دونا على الباقين ، ومن أين أتى هذا النظام والانتظام في التغذية بين هذه الطيور في تطبيق لا نظير له في الإحياء ، علما أن لا أحد من هذه الطيور يسلك سلوكا من شأنه أن يخلخل النظام على غصن الشجرة مع هذا لا يشبع العدد المتوقف على غصن الشجرة في المرة الواحدة لعدم كفاية الفاكهة الملتقطة والموجودة على غصن تلك الشجرة ، لذلك تقوم هذه الطيور في الوقوف على غصن آخر مليء بالفاكهة ولكن هذه المرة يكون الطير الأكثر جوعا والأبعد عن الفاكهة في المرة الماضية الأقرب إلى الفاكهة وتبدأ دورة التغذية من جديد وفق نظام يتم بالعدالة والدقة (123).
الحيوانات المتعاونة عند الولادة
تكون الحيوانات وخصوصا اللبائن أكثر تعرضا للخطر أثناء الولادة ، لأن الأم ووليدها يكونان لقمة سائغة للحيوانات المفترسة ، ولكن الملاحظ أن هذه الحيوانات تكون بحماية أحد أفراد القطيع عندما تضع وليدها ، على سبيل المثال تختار أنثى الانتيلوب مكانا أمينا بين الأعشاب الطويلة لتضع وليدها ولا تكون وحدها أثناء الولادة حيث تكون بجانبها أنثى أخرى من نفس القطيع كي تساعدها حين الحاجة .
وهناك مثال آخر للتعاون بين الحيوانات أثناء الولادة وهو " الدولفين" فالوليد الصغير عندما عندما يخرج توا من رحم أمه عليه أن يخرج لسطح الماء للتنفس ، لذلك تدفعه أمه بأنفها إلى أعلى كي يستطيع التنفس ، وتكون الأم ثقيلة الحركة قبل الولادة ، ويقترب منها أنثيين من نفس الجماعة لمساعدتها لحظة الولادة ، وتكون هذه المساعدان تسبحان إلى جانبي الأم لحظة الولادة لمنع أي ضرر يلحق بها في تلك اللحظة الحرجة ، خصوصا أن الأم تكون ثقيلة الحركة ومعرضة للخطر أكثر وقت مضى .
ويكون الوليد الجديد لصيقا بأمه طيلة الأسبوعين الأولين ، ويبدأ السباحة شيئا فشيئا بعد ولادته بفترة قصيرة وتدريجيا يبدأ بالاستقلال عن أمه ، وتكون الأم في هذه الحالة ضعيفة بعض الشيء ولا تستطيع أن تتأقلم مع حركات الولي الجيد لذا فتتدخل أنثى أخرى لحماية الصغير وتوفير العون الكامل للأم حتى تلتقط أنفاسها (124).
وعلى نفس الأسلوب تلد الفيلة أولادها ، حيث تكون أنثى دوما لمساعدة الأم أثناء الولادة ، حيث تختفي الأم ووصيفتها داخل الأعشاب الطويلة بكل مهارة حتى تنتهي عملية الولادة وتستمران في رعاية الفيل الجديد طيلة حياتهما ، وتتميز الفيل الأم بحساسية مفرطة خصوصا عندما تكون بجانب وليدها (125).
وهناك أسئلة عديدة تطرح نفسها في هذا المجال مثلا كيف تتفاهم الفيلة أو غيرها من الحيوانات مع بعضها أو الأنثى التي تصبح مساعدة كيف تفهم أو تشعر باقتراب موعد الولادة لقريبتها ؟
وهذه الحيوانات لا تمتلك عقلا مفكرا أو إرادة فاعلة لتحديد هذه الأمور الحياتية ، إضافة إلى أن هذه الفيلة السالفة الذكر تسلك نفس السلوك في أية بقعة أخرى في العالم ، ونفس الشيء يقال للدولفين أو غيره من الحيوانات ، وهذا دليل على كونها مخلوقة من قبل خالق واحد يتغمدها برحمته وعلمه الواسعين أينما كانوا .
الحيوانات الحاضنة لصغار غيرها من الحيوانات
تمتاز اللبائن بأنها تنشأ علاقات قرابة وطيدة فيما بينها ، على سبيل المثال الذئاب تعيش ضمن عائلة واحدة تتألف من ذكر وأنثى وصغيرهما وربما واحد أو اثنين من ولادات سابقة ، وكل الحيوانات البالغة تقوم بمهمة حماية الصغار ، وأحيانا تبقى إحدى الإناث في الوكر لتقويم بمهمة الحاضن لأحد الصغار طول الليل بينما تقوم الأم بالخروج إلى الصيد مع باقي أفراد الجماعة .
تعيش كلاب الصيد الإفريقية ضمن جماعات تتألف الواحدة منها من عشرة أفراد ، وتبدأ توزيع الواجبات بين الذكور و الإناث والتي تتلخص بحماية الصغار وتغذيتهم ، وتتسابق فيما بينها على رعاية الصغار ، وعند اصطيادها لفريسة تقوم بتشكيل حلقة حولها لحمايتها من هجوم الضباع ولإفساح المجال للصغار بالتغذي عليها (126).
ويعيش " البابون " أيضا ضمن جماعة يقوم زعيمها برعاية المرضى والجرحى من أفرادها ، حتى أن البالغين قد يتبنون " بابون " صغير في حالة فقدانه لأبويه ، حيث يأذنون له بالسير معهم نهارا والمبيت عندهم ليلا ، وقد تغير الجماعة مكانها عندئذ تقوم الأم بالمسك من يد صغيرها ليمشي الهويدا في حالة كونه صغيرا جدا لا تستطيع أن تضبط توازنه أثناء حملها له ، والصغير قد يتعب أثناء سيره ويتسلق ظهر أمه غالبا ، وهذا يؤدي إلى تقهقرهم عن الجماعة ، ولو فطن زعيم الجماعة لهذا الأمر يقفل راجعا إلى حيث تقف الأم ويبدأ بمرافقتهم أثناء المسير (127).
أما أبناء آوى فتعيش مع أمهاتها حتى بعد انقطاعها عن الرضاعة وتصبح يافعة تساعد أمها عند ولادتها لرضيع جديد ، حيث تجلب الغذاء للصغار أو تذهب بهم إلى مكان بعيد لحين ابتعاد الخطر الداهم (128).
وليس أبناء آوى وحدهم الذين يهتمون برعاية أشقائهم بل تقوم بنفس المهمة طيور مثل دجاج الماء و السنونو حيث تقوم صغارها في الأعشاش القديمة بمعاونة أشقائهم في الأعشاش الحديثة .
والتعاون في عالم الطيور يتخذ شكلا آخر لأنه يكون بين أزواج الطيور مثل طير النحل حيث يتعاون الزوجان في تنشئة أطفالهما وهذا التعاون من الممكن مشاهدته لدى الطيور بكثرة (129).
وهذه الرعاية التي تبديها الحيوانات تجاه صغار لا تعود إليهم تعتبر من الأدلة القوية لنسف مزاعم دعاة " التطور " ، وكما أسلفنا القول فإن المؤمنين بنظرية "التطور" يفسرون سلوك الحيوانات المتسم بالتضحية على كونها ليست تضحية بل أنانية لأنها تهدف إلى الحفاظ على الجينات الوراثية ونقلها إلى أجيال لاحقة فقط .
ولكن اتضح من الأمثلة السالفة أن هذه الحيوانات لا تبد اهتمام ورعاية لأبناءها من حملة جيناتها فقط وإنما تجاه حيوانات لا تحمل أية جينات منها أصلا بمنتهى الرأفة والرحمة والشفقة ، أي أن هذه الفرضية فرضية "الجين الأناني" التي ساقها المؤمنون بنظرية " التطور" قد أفلست تماما وثبت عدم صحتها بالمرة. ومن المستحيل ان يفكر حيوان غير عاقل بنقل جيناتها إلى جيل لاحق. ولو قبلنا أن تكون هذه الحيوانات مبرمجة على عملية نقل الجينات فيجب علينا أن نقبل وجود مبرمج لهذا البرنامج. وكلّ حيوان نصادفه في الطبيعة وندرس طبائعه وخصائصه يقودنا الى الى خالق واحد لهذا الوجود .وهذا الخالق بلا شك هو الله الرحمن الرّحيم